Foundo

vendredi, 29 mars 2024
search

تحديات السيادة التكنولوجية:غموض وتغيرات متسارعة

فراس جبلون

من الواضح والأكيد أن العالم يمر بتغيرات كبرى عديدة جراء جائحة كوفيد 19 ولعل أهمها هو اهتزاز الثقة في العولمة واكتشاف عديد الدول أن الاعتماد على الآخرين قد يشكل خطرا وتهديدا استراتيجيا يجب عليها التحوط منه في أقرب الآجال.

لهذا السبب، بدأت عديد الدول، وعلى رأسها الاتحاد الأوروبي مثلا، تطرح بقوة مسألة السيادة التكنولوجية وخاصة ضرورة التقليص من اعتمادها الكبير على التكنولوجيا القادمة من الولايات المتحدة وبدرجة أقل من الصين إلى حد دفع بالرئيس الفرنسي ماكرون ليقول: “إذا لم نصنع أبطالنا في كل المجالات: التكنولوجيا الرقمية، الذكاء الاصطناعي [الخ]، فإن خياراتنا سيمليها علينا الآخرون”.

إذا كان هذا حال الاتحاد الأوروبي ودول أخرى تعد متطورة ومزدهرة مقارنة بتونس فالمسألة تصبح أكثر خطورة بالنسبة لنا ناهيك أننا نواجه أيضا تهديدات مختلفة أخرى تفرض علينا درجات من التبعية تستهدف سيادتنا واستقلال قرارنا الوطني.

في الواقع هذا التخلف التكنولوجي ليس جديدا علينا وتهديد السيادة التكنولوجية تفطن إليه الرئيس الحبيب بورقيبة مثلا ونبه من خطورته في خطاب البالماريوم الشهير سنة 1972 حين قال:

“لازلنا في نوع جديد من الاستعمار.. وهو احتياجنا لآلاتهم اللي اخترعوها .. و [حتى] لتصليحها” ثم أضاف:

“أحرار في السيادة لكن في الحياة والحاجيات اللي ما عادش نستغناو عليهم، [نحن] في يدهم هوما”

المؤسف أننا منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم مازلنا “في يدهم” بل لم يزد الوضع إلا تعقيدا بسبب التطور التكنولوجي المذهل الحاصل على أكثر من صعيد الشيء الذي جعل تفاصيل تفاصيل حياتنا تصبح مرتبطة ارتباطا وثيقا بتكنولوجيا لا نسيطر عليها ونفتقد تماما لإمكانيات تصنيعها وتملكها.

 على سبيل الذكر، منصات الحوسبة السحابية (Cloud Computing Platforms) التي انتقلت إليها تقريبا جل التطبيقات الرقمية، تسيطر عليها بصفة شبه كلية شركات عملاقة تعد على أصابع اليد الواحدة. هذه المنصات تقوم هي نفسها على تكنولوجيا أخرى أكثر تعقيدا تمثل اللبنة الأساسية لكل التطور الحاصل اليوم ولا يملك مفاتيحها إلا بضع شركات عالمية من الولايات المتحدة أساسا وهي صناعة شرائح الحاسوب (computer chips) والمعالجات الدقيقة (microprocessors). هذا بالإضافة لأجهزة الاستشعار (sensors) والتطبيقات الهائلة والمتعددة التي تتيحها مثل “انترنيت الأشياء” (Internet Of Things) وغيرها فهي أيضا تقنية لا نملك مفاتيحها لكنها هي الأخرى ستحدد بصفة كبيرة شكل الحياة التي سنعيشها في المستقبل.

إلى جانب تحديات التكنولوجيا الرقمية فإن مجال الطاقة يمثل تحديا تكنولوجيا أكبر حتى بالنسبة لدول عظمى وذلك في علاقة بالطاقات المتجددة من ناحية، أمام الانحسار التدريجي المتوقع للبترول، لكن أساسا بصناعة البطاريات الحديثة ذات سعة التخزين العالية والتي ستفتح الباب مثلا لتصنيع سيارات المستقبل الكهربائية. فدولة كألمانيا مثلا، حيث تمثل صناعة السيارات مجدها ومصدر فخرها، قد تجد نفسها أمام تهديد خطير بسبب عدم امتلاكها بالشكل الكافي لهذه التكنولوجيا التي تتميز فيها خاصة شركات صينية وآسيوية بصفة عامة.

في الحقيقة، كلما عددنا الأمثلة وغصنا أكثر في موضوع السيادة التكنولوجية إلا وازددنا رعبا وقلقا على المستقبل. لكن، وكما يقول المصريون، هذا كله كوم ومسألة سيادة البيانات كوم آخر تماما.

فسيادة البيانات (Data Sovereignty)، التي تعد أحد أهم محاور السيادة التكنولوجية تمثل اليوم خطرا حقيقيا يطرح أسئلة عديدة عن مدى سيطرتنا (اليوم وليس غدا) على قرارنا ومحافظتنا على خصوصياتنا ومعطياتنا الشخصية. 

لنفهم الموضوع أكثر يجب أن نعود لسنة 2013 حين خرج ادوارد سنودن للعلن وكشف تفاصيل خطيرة عن برنامج أمريكي للتجسس يعرف باسم برنامج پريزم (PRISM).

هذا البرنامج التابع لوكالة الأمن القومي الأمريكية (NSA) بدأ سنة 2007 تحت غطاء قانون حماية أمريكا (Protect America Act) إبان إدارة الرئيس جورج بوش الابن ويسمح بالحصول على بيانات المستخدمين من كبرى الشركات الأمريكية كڤوڤل ومايكروسوفت وفايسبوك وغيرها ويطال المعطيات الشخصية بما في ذلك البيانات المشفرة حين تعبر شبكات الأنترنت. حجم هذا الاختراق هو مذهل بكل المقاييس، كما كشف سنودن، خاصة إذا علمنا أن نسبة عالية جدا من الاتصالات الالكترونية العالمية تمر ضرورة عبر الولايات المتحدة لأنه الخط الأقل كلفة حتى وإن لم يكن الأقصر.

معركة البيانات وخاصة تلك التي يقع جمعها على شبكات التواصل الاجتماعي بلغت ذروتها في الانتخابات الرئاسية الأمريكية وأيضا استفتاء البريكسيت في بريطانيا والأسئلة الخطيرة التي بدأت تطرح عن مدى تطور برمجيات الذكاء الاصطناعي، وخاصة تقنيات التعلم العميق (deep learning) الجديدة نسبيا، وقدرتها على استغلال تلك البيانات لغسل دماغ المتلقي وتوجيه الرأي العام في اتجاهات معينة بذاتها بقطع النظر عن إرادة تلك الشعوب ومصلحتها.

  شركة كامبريدج أناليتيكا (Cambridge Analytica) كانت أبرز المتهمين بالتلاعب بالرأي العام بطريقة غير قانونية وغير أخلاقية في عدة دول على رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا مما أدى إلى انهيارها السريع. لكن هذه الشركة التي انفضح أمرها بسرعة قد تكون فقط قمة جبل الجليد لممارسات أكبر وأخطر لكنها ظلت في السر ودون اثبات لعل أهمها اتهام روسيا بالتلاعب بالانتخابات الأمريكية مما أدى للفوز غير المتوقع لدونالد ترامب سنة 2016.

وبالفعل، قد يكون هذا السبب هو الذي جعل ترامب يعرف ربما أكثر من غيره خطورة التفريط في سيادة البيانات مما جعله يصر على منع برنامج تيك توك الصيني من الولايات المتحدة وذلك لأسباب أمنية ومحافظة على السيادة الأمريكية وعلى بيانات مواطنيها وهذا رغم شعارات العولمة والتبادل التجاري الحر والسوق العالمية المفتوحة وغيرها ومن ركائز الأيدولوجيا الليبيرالية الأمريكية على مدى عقود.

علما أن الصين أيضا لا يوجد فيها فايسبوك (لديهم WeChat) ولا يوجد يوتيوب ولا ڤوڤل ولا Uber وطبعا لا توجد أمازون (لديهم العملاق علي بابا) وأيضا لا توجد فيزا ولا ماستركارد للمعاملات المالية (AliPay يفي بالحاجة) وهذا بعد أن فشلت تلك الشركات العملاقة في فرض نفسها في السوق الصينية (حسب الرواية الصينية طبعا).

هذا الصراع الصيني الأمريكي حول الأمن المعلوماتي والسيادة القومية يتعاظم يوما بعد يوم ويعرف قمة الإثارة في قضية شركة هواوي التي تتفوق تفوقا واضحا في تكنولوجيا الجيل الخامس 5G لشبكات الاتصال الخلوية التي يتوقع كثيرون أن تشكل قفزة نوعية في تاريخ البشرية، الشيء الذي اعتبرته الولايات المتحدة تهديدا استراتيجيا من العيار الثقيل بسبب خوفها من سيطرة الحكومة الصينية على بيانات مستخدمي هذه الشبكة فرفضت بالتالي السماح لهواوي بالنشاط في سوقها الكبيرة بل وتحاربها دون هوادة في كامل أنحاء العالم سياسيا وتجاريا وحتى تقنيا حيث فرضت حضرا يمنع الشركات الأمريكية من التعامل مع هواوي وخاصة شركة ڤوڤل التي تمتلك برنامج Android الضروري لتشغيل الهواتف الذكية التي تصنعها هواوي.

صراع العمالقة هذا الذي نقف نحن أمامه وقوف المشاهد العاجز المذهول يجرنا إلى سؤال فلسفي عميق حول مفهوم السيادة واستقلال القرار الوطني في عالم مخترق وواقع تحت سيطرة كاملة لشركات ڤوڤل وفايسبوك وغيرها من الشركات العملاقة العابرة للقارات والتي ستتمكن قريبا (ولعلها توصلت إلى ذلك فعلا) إلى معرفة كل كبيرة وصغيرة عن كل فرد فينا. 

فما الحل؟ وكيف سيكون المستقبل؟

هل نقبل بالأمر الواقع وننخرط في “اللعبة” بحلوها ومرها؟ أم ننغلق ونتقوقع على أنفسنا ونستغني عن كل هذه التكنولوجيات المتطورة (والمخيفة) بداعي حماية أنفسنا من الاختراق والتلاعب والاستغلال؟

هل يجب أن نطور تطبيقات تواصل وبحث خاصة بِنَا؟ هل هذا ممكن عمليا أم هي فقط شعارات شعبوية متناقضة مع الواقع؟

هل نغير المعسكر مثلا لنتقرّب ونحتمي بالصين؟ أم يمكن لنا أن نكون مع هذا وذاك في نفس الوقت فلا نضع كل البيض في سلة واحدة وحتى لا نكون كالمستجير من الرمضاء بالنار؟ وهل لنا فعلا من “السيادة” واستقلال القرار ليُسمح لنا بالحياد ونحن في وضعية هشة جدا على كل المستويات؟

هل سيبقى أصلا أي معنى لمفهوم السيادة كما نعرفه اليوم في سنة 2050 مثلا؟

هل يمكن أن يكون هناك قيمة لحدود برية على أرض الواقع دون حدود الكترونية في العالم الافتراضي؟ 

العالم يتغير وبسرعة رهيبة وبديهيات القرون الماضية قد يتجاوزها الزمن قريبا وقريبا جدا.

فماذا نحن فاعلون؟

أسئلة صعبة قد لا نجد لها إجابات مقنعة وحاسمة خاصة أنها جاءت نتيجة تغيرات عميقة في حياة البشر حصلت بسرعة غير مسبوقة خاصة في العقدين الأخيرين (بداية بالأنترنيت ثم الهواتف الذكية). لكن الأكيد أن العالم وعبر التاريخ كان دائما يصغر تدريجيا وبنسق متسارع مع تطور وسائل التنقل والتواصل وهذا النسق بلغ ذروته في زماننا هذا حتى يكاد العالم يصبح قرية صغيرة متجانسة تنعدم فيها الاختلافات الجوهرية.

هذه الصيرورة التاريخية والديناميكية الحضارية توحي أن الانفتاح قد لا يكون خيارا، بل هو قدر محتوم من يرفضه سيبقى خارج التاريخ والحضارة. ومن هذا المنطلق قد يكون السؤال الأكثر فائدة هو كيف نستعد لهذا العالم الجديد لا فقط لضمان البقاء، بل أيضا لنلعب فيه دور الفاعلين المستفيدين والمفيدين؟ والإجابة تمر حتما عبر العلم والمعرفة وإحداث ثورة حقيقية في مناهج التعليم وأساليب التدريس لتقطع مع رواسب الماضي السحيق وتكون مواكبة للعصر مستشرفة للمستقبل.

فراس جبلون
دكتور في الهندسة الكهربائية | Plus de publications

 فراس جبلون متحصل على الدكتوراه في الهندسة الكهربائية والاعلامية سنة 2004 من جامعة ماكغيل بكندا

يقيم في العاصمة البريطانية لندن ، انخرط منذ سنة 2005 في الحزب الديمقراطي التقدمي وكان أحد المشاركين في مؤتمر الحزب سنة 2006

فراس جبلون

 فراس جبلون متحصل على الدكتوراه في الهندسة الكهربائية والاعلامية سنة 2004 من جامعة ماكغيل بكندا

يقيم في العاصمة البريطانية لندن ، انخرط منذ سنة 2005 في الحزب الديمقراطي التقدمي وكان أحد المشاركين في مؤتمر الحزب سنة 2006